الإمام سيدي محمد الشريف الصعيدي
الأحد, 14 سبتمبر 2014 18:24

قال ياقوت في معجمه: الصعيد بمصر بلاد واسعة كبيرة فيها عدة مدن عظام.. في جنوبي الفسطاط.. يكتنفها جبلان والنيل يجري بينهما والقرى والمدن شارعة على النيل من جانبيه،

 وبنحو منه الجنان مشرفة، والرياض بجوانبه محدقة".

 

في هذه البلاد ولد الإمام سيدي محمد الشريف الصعيدي سنة 1199هـ لأبيه السعد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن الحسن بن الحسين بن سيدي محمد بن سليمان بن أبي حامد بن حامد بن سيدي عبد القادر الجيلاني بن موسى بن عبد الله بن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله بن موسى 

الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي رضي الله عنه وكرم وجهه، ولأمه الشريفة الصالحة صفية بنت زين العابدين بن محيي السنة.  

 

فكان كما قال العلامة الشاعر امحمد بن الطلبه الموسوي اليعقوبي:  

غوثا تفرع من عدنان هامتها :: غوثا مغيثا أمين الغيب مأمونا  

فهو "الشريف دون قيد" كما نظم العلامة محمد فال بن محمذ (ببها):  

إن يطلق الشريف دون قيد :: فسيِّدي محمد الصعيدي  

 

وهما "الشريفان حقا" بذلك خاطب الشيخ أحمدو بمب الشريفين محمد فال بن عابدين بن اباه الشريف ومحمد بن باباه بن بدي حين وفدا عليه وأكرمهما إكراما.  

 

و"هؤلاء هم الشرفاء" كما قال العلامة يحظيه بن عبد الودود عندما رأى الشريفين حَمَّ بن محمد بن عابدين بن اباه الشريف وسيد محمد بن محمد الامين بن بدي،   

 

وشرفهم من المسلم به كما قال الشريف القطب بدي بن سيدي محمد الشريف عندما سمع الرؤيا التي تواترت للعلامة محمد بن محمد سالم وأبنائه العلماء فقد رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة يخبرهم بصحة شرف آل سيدي محمد الشريف الصعيدي، وكان بدي ممن أخذ العلم عن آل محمد سالم.   

 

ترعرع سيدي محمد الشريف في الصعيد بمصر وهناك تضلع بالمعارف ونهل من معين شيخه عبد العليم الفيومي، ثم تعلقت روحه بما هو أبعد من ذالك، فخرج من تلك الجنان المشرفة والرياض المحدقة حوالي سنة 1212ه سائحا – بأمر من شيخه كما في بعض الروايات- باحثا عن المزيد من الفتوحات الإلهية ، متجها إلى مجمع البحرين.   

 

وظهر في رحلة سيدي محمد الشريف الكثير من خوارق العادات، من ذلك أنه كانت زرافات النعام تألفه والوحوش تصحبه، ذكر العلامة بدي ابن القاضي المجلسي أن شيخه العلامة اتاه بن يحظيه بن عبد الودود كان إذا أقْرأ بيت المقصور والممدود:  

وتالفه الخَيطى وخَيطاء إلفُه = ولولا المَنى لم يُرض منه مَناء  

 

يقول "هذا مثل سيدي محمد الشريف".   

 

والخيطى بالفتح والقصر قطيع النعام، وخيطاء بالفتح والمد النعامة الطويلة العنق، والمنى بالفتح والقصر القدر، والمناء بالفتح والمد النهوض بجهد ومشقة، قال الشيخ سيد المختار الكنتي في "فتح الودود" عند شرح هذا البيت: "وليس بعجب لزوم الوحوش للصالحين المتجردين ولقد كثر ذلك حتى صار أمرا ضروريا".   

 

وظل سيدي محمد الشريف على هذه الحال منعزلا عن الناس للعبادة، وكان أكثر عبادته التفكر، يقضي أغلب أوقاته في الخلوات مستلقيا على الأرض واضعا ذراعيه على وجهه متفكرا في ملكوت السماوات والأرض.  

 

كان حمدي بن الطالب أجود، من عباد الله الصالحين، وأهل التربية العارفين، ولما حضرته الوفاة أخبر مريده زائد المسلمين التاشدبيتي أنه سينال فتحا إلهياعلى يد شريف صالح يقدم على هذه الأرض من صعيد مصر من وصفه كذا وكذا، وأن قافلة ستمر به فتدله عليه،

 

وتوفي الشيخ فظل زائد المسلمين ينتظر الشريف نحو ثلاث سنوات على أحر من الجمر، وذات يوم عصفت ريح بخيمة بتيرس كان زائد المسلمين نائما فيها، فانتبه وقام يرفع جانب الخيمة، فمرت به قافلة فتذكر وصية شيخه،

 

فبادر إلى القافلة وسألهم: هل رأيتم أحدا؟

 

فأخبروه أنهم رأوا شخصا يسير مع الوحش والنعام يظهر لهم تارة ويختفي تارة أخرى، ودلوه على آخر مكان رأوه فيه، فذهب إليه ورآه يصلي فجاءه من خلفه حتى صار عند ظهره، فالتفت سيدي محمد الشريف إليه وأخبره بما وقع له مع شيخه حمدي، فدهش زائد المسلمين لذلك وحصل في ذلك الوقت بإذن الله تعالى على ما أراد.  

 

وصل سيدي محمد الشريف إلى المنتبذ القصي حوالي سنة 1222هـ فكان نعمة عظمى وبركة كبرى على أهلها، وأول من اتصل به من القبائل "أهل بارك الله" في "تيرس" أخبرهم زائد المسلمين بأمره، وفيهم العلامة سيد عبد الله بن الفاضل ومحمدّ بن إسحاق، وبعد إلحاحهم عليه في الذهاب معهم ذهب معهم، وامتنع عن الكلام حتى إذا أقبل عليهم المامون بن محمذ الصوفي اليعقوبي -وكان مكاشفا- فأنشد قوله:  

بشرى لقد نشر الرحمن رحمته :: فينا فما برحت رحماه تنتشر  

أهدى الإمام ابن سعد نحو بلدتنا :: من الصعيد كما قد شعشع القمر  

فأقسم الشريف قائلا: وحق الرسول ما خاطبتني أمي إلا بالإمام ثم أنشد المامون:  

أفضى إلى مجمع البحرين مبتغيا :: ما يبتغي قبله في المجمع الخضر  

ما كنت أحسب حتى حل بلدتنا :: أن صار يجري على إسعادنا القدر  

يا سبط سبطي رسول الله خذ بيدي :: إن الشفاعة منكم للورى ذخر  

 

فأقسم الشريف قائلا: وحق الرسول – صلى الله عليه وسلم- إني لمقابل بين الحسن والحسين مثل مقابلة محمذ بن احميّد في المختار بن ألفغ موسى.  

 

فلم يلبث طويلا حتى ظهر صلاحه، وشاع خبره في الناس فبهر الناس أمره ووفدوا عليه من كل حدب وصوب، وشهد له العلماء بالبراعة في علمي الشريعة والحقيقة،   

 

وقد قال القاضي الإمام بن الشريف أن العلامة المختار بن بونه اجتمع بسيدي محمد الشريف فلما سئل عنه قال: "ما أعرف عنه إلا براعته في العلم الظاهر".  

 

وتزوج سيدي محمد الشريف في هذه الفترة بِـبَوْبَّ بنت محنض اليعقوبية التي أنجبت له ولده الولي الصالح ذا الكرامات الظاهرة والخوارق الباهرة محمد محمود الملقب بدي بن سيدي محمد الشريف، وشقيقته الصالحة العابدة مريم بنت سيدي محمد الشريف،   

 

ويحكى أن والد بَوبَّ محمذ بن محنض خرج من المسجد صبيحة زفاف ابنته بَوبَّ، ولما رجع إلى الخيمة لم يهتد إليها من كثرة ما أحدق بخيمته من النوق التي ساقها "أهل بارك الله" تلك الليلة هدايا لسيدي محمد الشريف.  

 

وممن سبق إليه في هذه الفترة محمذ بن الصبار المجلسي ومحمذ بن احميّد وامحمد بن الطلبه الموسويان اليعقوبيان والبرناوي بن سيد عبد الله بن الفاضل البارَكي.  

 

أما محمذ بن احميّد فقد سأله سيدي محمد الشريف: ما حاجتك؟ قال: أن تجود علي الدنيا وأريد "التازبّه"، فجادت عليه الدنيا فجاد هو بها على الناس، ونال "التازبّه" حتى كان لا يمر بشجرة فتمسك بثيابه إلا اضطرمت فيها النار.  

 

وأما محمذ بن الصبار فكان قبل لقائه بسيدي محمد الشريف قد أنهى السِّفْرَ من المختصر، وبدعوة من شيخه سيدي محمد الشريف فتح الله عليه في الباب منه،   

 

وفي ذلك يقول القاضي الشريف بن الصبار:  

وإعطاؤه باب ابن إسحاق لحظة :: وكثر جزاك الله في ذا التفكرا  

 

ويقول العلامة العارف بالله المربي الشيخ محمد عبد الحي بن الصبار في مدح الشريف الصعيدي من قصيدة له طويلة:  

تقضى عليك الحول عند المرابع :: ولم يجد ربع في وصال التمانع  

ولم يجد شيئا وصل بيد شواسع :: ويكفيك وصل الشيخ من وصل شاسع  

شريف لدى اليطيون ساطع نوره :: ويكفيك وصل الشيخ من وصل شاسع  

أيا غرة الأشراف يا من خصاله :: وواها لها تغنيك عن كل بارع  

 

ويقول أيضا:  

قد هيج الشوق ذكر الفرع والجيد :: من لي بدوسرة في القطع للبيد  

طلق اليدين ذلول كالجهام إذا :: صام النهار فما تلوي على القود  

تنجو إذا ما ونت بك الركاب ضحى :: عدو الهجف لدى قرع الجلاميد  

تؤم رودا عروبا كالغزال وما :: شبه الغزال سوى اللحظين والجيد  

 

إلى أن يقول:  

ياناق صبرا على ما ذقت من كلف :: وارجي مناخا تتالي كل تمجيد  

ببابِ قطب الورى خير الورى شرفا :: مورث المجد من عدنان والجود  

بحر المعارف فرد العصر غرته :: نجل الكرام الغطاريف الصناديد  

من حاد عن مهيع الهادي وسيرته :: يريه روعا بتحذير وترشيد  

 

ويقول أيضا من قصيدته التي مطلعها:  

تذكرت ربعا قد تميس به أروى :: لدى جانب الألوى جرى الدمع بالألوى  

فعهدي به قدما لدى أرض تيرس :: فطورا ترى زوكا وطورا ترى جلوى  

أناة عروب من خدال أوانس :: تغذت برسل الكوم ما رمقت أحوى  

لئن صار ربع الخود للعين مربضا :: لقد كان مرعى للتى ما لها شروى  

إذا عز وصل فاصرف القول نحو من :: بتفضيله في الدهر قد عمت البلوى  

تسامى على كل الورى وسناؤه :: يحاكي بدور التم والغفر والعوا  

فلله حوى إذ تسامي وليدها :: على كل سام من بني أمنا حوا  

 

إلى أن يقول:  

أيا غرة الأشراف لا زلتم مأوى :: لأشعث ياتي يبتغي منكم نجوى  

وقد كنتم قدما لأشعث مرمل :: وقد عضه دهر بأنيابه مثوى  

فلا زلتم ملجا إذا اختلف القنى :: ولا زلتم أمنا إذا اشتدت اللـأوى  

أيا غرة الأشراف ليلاي أنتم :: وأنتم لنا سعدى وأنتم لنا أروى  

ويقول العلامة القاضي الشريف بن الصبار في قصيدة له:  

سعد السعود يراه الخلق طالعه :: بالجذع الاخضر من اكناف لطيون   

سعد السعود الذي أنواره انتشرت :: حتى تعدت أقاصى الغرب والصين  

سعد السعود الذي أنواره سطعت :: تفرى ظلام ليال الغي في الحـين  

سعد السعود الذي أنوار أبحره :: لم تشتر القطب والأوتاد بالنـون  

سعدالسعود الذي الأقطاب :: توصله من والديه إلى خير النبيئين  

سعد السعود الذي قد علـم العلما :: و هو المربي للاقطاب المربين  

سعد السعود الذي الأكوان كـن له :: سيان ذو القرب ياخلي و ذو البون  

مسك الختام الذي عمت روائحه :: مستنشق العرف منها غير مـــــغبون  

أعني الصعيدي نجل السعد من سعدت :: به الزوايا و أشراف الحساسين   

 

وأوصى سيدي محمد الشريف محمذ بن الصبار أن يتزوج ابنته مريم ففعل ما أوصاه به، فأنجبت له أبناءه الأخيار العلماء الصلحاء أبناء الصبار المجلسيين ، يقول القاضي الورع العلامة الشريف محمد بن أحمدو بن عابدين في كتابه: "لطائف التعريف بمناقب الإمام سيدي محمد الشريف": "فكان لها كأبي زرع لأم زرع إلا أنه لم يطلقها وكانت له كأم زرع لأبي زرع إلا أنها لم تتزوج بعده وقد أنجبت له ذرية طيبة منها العلماء والأولياء والصالحون".  

 

ومن كشف سيدي محمد الشريف أن العلامة محمذ بن الصبار حدثته نفسه يوما أنه حصل على جميع معارف شيخه فناداه الشريف باسمه وأنشد البيت:  

إذا حدثتك النفس أنك قادر :: على ما حوت أيدي الرجال فكذب  

 

وكرر الكلمة الأخيرة من البيت مرات.  

 

مكث سيدي محمد الشريف في شمال البلاد عدة سنوات، ثم خرج إلى القبلة، فتزوج بها مريم بنت محمد ابريل الدمانية، من أولاد زنون من أهل أحمد بن لفظيل فأنجبت له ابنه الجواد المنفق العالم العامل "رجل الدنيا والآخرة" خريج محظرة العلامة محنض باب بن اعبيد الديماني محمد مولود الملقب اباه الشريف بن سيد محمد الشريف،

 

وهو خليفته في الجنوب كما أن ابنه بدي خليفته في الشمال، ثم تزوج امرأة من أولاد أحمد بن دمان من بيت الإمارة وهي امبيريك بنت عمير بن الشرغ بن هد أخت محمد فال بن عمير البطل المشهور والكريم المذكور.  

 

وفي محلة الإمارة بقرية "تنورات" كان لقاء العلامة محمذ بن أحمد بن العاقل بسيدي محمد الشريف، قدم محمذ بن أحمد يوما إلى حي الإمارة فبلغه أمر سيدي محمد الشريف،

 

وكان الشريف قد ألف الخلوة والعبادة يخرج صباح كل يوم فإذا جن الليل آب إلى خيمته في محلة الأمير، فخرج إليه محمذ بن أحمد في خلوته تلك فكان من أمره معه ما كان إلى أن أمره سيدي محمد الشريف بانتظاره،

 

وذهب الشريف إلى محل الأمير وفي الصباح جاءه وكشف له عن رأسه فكان محمذ بن أحمد يقول:  

فكان ما كان مما لست أذكره :: فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر  

 

وهو الذي يقول فيه:  

الوليَ الاِلهْ اللطيفْ :: امْعَظمهم تعظيمْ اْمتينْ  

غير الوَلِي لَعاد اشريفْ :: ماهُ كيفْ الوليَ لخرينْ  

 

ومن أشهر من أخذ عنه في هذه الفترة أيضا الشريف محمد بن مولاي العباس -جد شرفاء تكنت النخيل- الذي كاشفه بقوله: "إني لأشم فيك رائحة الرُّب" بضم الراء، فكان صاحب غرس ونخل.  

 

ومنهم العالم الشاعر محمد مولود بن الناهي الدماني من أولاد أحمد بن لفظيل، وقد مدح سيدي محمد الشريف بقصيدته المشهورة التي مطلعها:  

ذهبتُ إلى من هو المذهب :: لمن كان يرغب أو يرهب  

فيا بدرُ بدرَ العلى والإلى :: بل الشمس ما معها غيهب  

ويا أيها الشامخ الباذخ الــرفيع المنيع الحمى التُّرتُب  

ويا أيها الأورع الأروع :: الإمام الهمام الرضى الطيب  

ويا أيها الهامر الغامر الــعزيز النمير الجدى الصيب  

ويا أيها المرهم المرغم الـهمير الندى الأروح الأنجب  

ويا أيها الملجأ المنجأ النــجيب المجيب إذا يندب  

 

إلى أن يقول:  

فرِشْنيَ إنك من معشر :: مرير الحياة بهم يعذب  

فلا زال باغي الهدى والندى :: إليكم بحوجائه يرغب  

وقد شمت من نحوكم بارقا :: وما كنتَ مَن برقُه خلب  

 

ومن تلامذته العالم المشهور أحمد بن محمد الحاجي وقد زادت تآليفه على الثلاثين ومن مدحه للشريف قصيدته المشهورة التي مطلعها:  

طال الثواء بالرسوم الدرس :: بين قطاتين وبين عسعس  

كرجع وشم أو كزبر مدرس:: أو سحق لفق كرسف ملسلس  

 

إلى أن يقول يعني الشريف:  

ينمى إلى كل همام أهيس :: أروع ماضي العزم قاض كيس  

ينمى إلى قوم كرام جنس :: قد أسسوا للمجد أي مأسس  

فكم تواضع له ذو شأس :: وكم ترأس به من مرعس  

وهل مع الشمس بقاء حندس :: ورب أمر غامض منهمس  

بالحضرة الغراء ذات القدس :: مؤتلق الأنوار فيض المحتسي  

 

ومنهم كذلك محمذ بن حمدي الشريف نسبا الحاجي وطنا، ومحمذ بن الفالّ الحاجي ولهما مع الشريف قصة مشهورة هي أن محمذ بن حمدي سأل سيدي محمد الشريف عن جمل رآه قرب الخيمة متعبا هزيلا ما شأنه؟

 

فقال له الشريف: "يَولْ حَمدي بيهْ مولان" وكرر الكلمة عدة مرات،

 

فكان محمذ بن حمدي يقول: إن كلمة الشريف ثبتت في قلبه، وكان الناس يقولون إن محمذ بن حمدي حصل من تلك الكلمة على معرفة عميقة بربه، وأما محمذ بن الفالّ فسأل الشريف قائلا: إذا مات الجمل ماذا تصنع؟

 

فقال الشريف: "يفتح مولان" فكان الناس يقولون إن محمذ بن الفالّ حصل من تلك الكلمة على فتح إلهي وقوة حافظة توارثها عقبه من بعده.  

 

ومنهم كذلك عمير بن الشرغ بن هدّ من مشاهير أولاد أحمد بن دمان، وباب بن لمكمش وأحمد بن عبد الله الدمانيان، والمختار بن حيمد الغلاوي.

 

وبـ"اليطيون" حيث الماء هنا والماء هنا والشجر الطويل – كما كان الشريف يصف محل دفنه – توفي سيدي محمد الشريف الصعيدي سنة 1232هـ عن عمر يناهز ثلاثا وثلاثين سنة، من بعد ما "أنجب في "أوراس" - وهي سواحل المحيط البعيدة من العمران - ذريته النجيبة واستودعهم الله تعالى"، وبقي فيهم علمه وصلاحه وفضله يرى نوره فيهم باديا بارك الله فيهم،   

 

وقد أشاد كثير من العلماء والصلحاء بمناقب آل سيد محمد الشريف الصعيدي فمن ذالك قول العلامة القاضي محمد سالم ولد عدود رحمه الله تعالى:  

ءال الإمام ابن سعد حزتم الشرفا :: كل لكم مائتي عام به اعترفا  

وذاك مثبته شرعا وتثبته :: طبعا حلاكم فأنتم سادة شرفا  

محافظون على الأعراق لم تضعوا :: أسراركم عند غير القادة العرفا  

بالعلم فزتم وبالتقوى فكلكمُ :: من إرث جد أبيكم حائز طرفا  

من سبط سبطي رسول فاض لكم :: فيض ومن جمه ماموننا اغترفا   

فنلتم في بني يعقوب منزلة :: ما كان حاسدكم فيها ليفغـر فَـــا  

صلى على جدكم طه وعترته :: من عنكم الرجس بالتطهير قد صرفا   

 

ويقول فيهم الإمام ابت بن باباه المجلسي:  

فتلك لعمري روضة المجد والعلى :: بها غرس الإسلام أطيب مغرس  

سراة الندى آل الصعيدي إنهم :: سلالة خير الناس أعيان أنفس  

هم شرفاء ما بـرى الله مثلهم :: جواريهم عن دينها غير خـنس  

مدارسهم علم الشريعة وحدها :: يـدرسها للناس خير مـدرس  

ونحن بحمد الله نبئى بحبهم :: فأعظم بحب في النفوس مقدس  

فلا نشب نغنى به غير ودهم :: ومن حاز كسب الود ليس بمفلس  

وذاك حديث الود نروي صحيحه :: فثم حديث الود غير مدلس  

 

ومن غريب أمر سيدي محمد الشريف ما ذكره هارون بن الشيخ سيديا في "كتاب الأخبار" من أنه "لما دفن نبتت عند رأسه شجرة عظيمة شديدة الخضرة"، وهذه الشجرة هي الجذع الأخضر المعروف الذي يطلق على تلك الروضة المباركة.  

 

وعند رأس سيدي محمد الشريف ركز العلامة امحمد بن الطلبه حجرا طويلا – يقال إنه جاء به من تيرس- نَقش فيه بخطه: "هذا ضريح سيد محمد الشريف رضي الله عنه"، ورثاه بقصيدته الشهيرة:   

يا بارقا بات يحدو دُلَّحا جونا:: بيض الذوائب أبكارا سمت عُونا  

يزْجي حبيّا إذا ما هد هيدبه :: رعد يثج ثجيجا ليس ممنونا  

عرجْ وبعِّجْ كلاها غيرَ متئد :: بالجذع الاَخضر من أكناف يَطيونا  

أسقي به المرجَ مرجَ الجذع حيث به :: أمسى وأصبح عِدُّ المجد مدفونا  

فينبت المرج حوذانا أجش له :: أو اقحوانا أغر النَّـور مجنونا  

فإن بالجذع غوث المستغيث إذا :: ما الحزن أمسى بنفس الحر مدفونا  

 

إلى أن يقول:  

بحر بساحله الأمواج مغرقة :: لم يرض وَدا ولا قطبا له نونا  

بحر الكرامات من آل النبي له :: وراثةً منه مَنا ليس ممنونا  

قطبٌ به أنُف العلياء قد جدعت :: مذ قيل أصبح تحت الترب مدفونا  

وقد تَوخى المَنى يوم استبد به :: حُرَّ الصميم وأبقى الدِّندِن الدونا  

تالله تفتأُ ذكراه تـؤرقـني :: وجْدا عليه فما أنفك محزونا  

 

وقال أيضا في مدحه وهي قصيدته المشهورة في غاية الروعة:  

فِيمَ الوقوفُ على رسومِ المَنزِل :: بَلْهَ البكاءَ على المَحَلِّ المُحوِلِ  

واذكرْ ذوي آلِ النبي بفضلهمْ :: فَبذكرهمْ غَيم الغَواية يَنجلِي  

واذكرْ مَحامدَهم هُبِلْتَ فإن في :: تَعدادِها لَمَنادِحا للمِقْوَل  

وارْصُدْهمُ في النُّوب لوذا إنهمْ :: عصَرُ الحَريبِ وموئِلُ المُتوَئِّل  

واسكبْ دموعَك ما ذكرتَ مَصارعا :: منهمْ بِتامورِ الفؤادِ وأعْوِلِ  

فإذا فعلتَ فَجِدَّ في أمداحهمْ :: وابكِ المكارمَ فِعلَ مَنْ لم يفعلَ  

فإذا فعلتَ فإنَّ ذاكَ قُلالةٌ :: في وُدِّ قُربى خَيرِ خير المرسلِ  

قد ضجَّتْ الأرْضونَ مِن فِقدانهمْ :: وتضعضعتْ أركانُ صُمِّ الأَجبُلِ  

لكنْ بحمد الله قرَّ قرارُها :: ببقيةِ القَرمِ الأبرِّ الأَعدلِ  

الفاطميِّ الألمعيِّ الهاشمــــــيِّ الحاتميِّ اللوذعيِّ النَّوفلي  

بمحمد بن السَّعد الاَرْضى نجل عبــــد الله ذي الخُلُق العُراض الأطولِ  

إنْ لا يكن مالي بآتيه فلي :: أسنى الهدايا بالمديح الأجملِ  

ولسوف يحبوه ثنائي مِقولٌ :: صَنَعُ الشّباة مُطَبِّقٌ للمفصلِ  

من ذا يُبَلِّغُه وكم من دونه :: زَوراءَ تنبو بالزِّوَرِّ العَيهلِ  

مني ثناءً صادقًا ولَخَيرُ ما:: تَحبوه قِيلٌ ليس بالمتقوَّلِ  

فلَأمدحنْكَ وإن رأيتُ مديحَكم ::أعيا مَقاول كلِّ قَرم مِقوَلِ  

بل كيف لي بالقول فيمن خِيره :: يُنمى إلى بيت النبي المرسلِ  

أم كيف أترك مدحَ مَن تعظيمُه :: حُكْمٌ قدُ احكِمَ في الكتاب المنْزلِ  

يا من يؤمِّل نيلَ كل مؤمَّل :: مِن خَير ما قد نال خيرُ مُنوِّل  

دع عنك جدوى كل خل باخل :: وَبِساحِ سَيحِ الشيخ عَرِّج وانزلِ  

انْزِلْ بحيث المجد ألقى ثاويا=منه البَعاعَ ولا تحِدْ لا تَضلِلِ  

فاحططْ رحالَك من ذُراه بِبَاذخٍ :: سامي الذُّرى طَودٍ مَنيعٍ المَعقلِ  

تلقى لدى ذاك الهدى وجَدا الندى :: ومن العِدى تُكفَى الردى وتُخَوَّلِ  

غوث وغيث في الهزاهز عِصمةٌ :: ما إن تَخطاهُ مطايا الرُّحلِ  

وَرِدِ الحقيقةَ والشريعةَ مَنهلا :: من ورده يا طيبَ ذاك المَنهَلِ  

فلَهدْيُه إما اهتديت بهديه :: أهدى من النجم اهتداءً في الفُلِي  

ولَسَيْبهُ إِمَّا تُرَجِّي سَيبَه :: أندى من السَّبَل الرُّكامِ الأسوَلِ  

ولَنصرُه إن تدْعُه لِمَضوفة :: أجدى من اللَّجب اللُّهامِ الجَحفَلِ  

ولَعزُّهُ إما احتميتَ بِطَوده :: أحمَى وأمنعُ من شمارخِ يَذبُلِ  

هذي إليكَ هديتي يا سيدي :: واضَيْعتاهُ إنَ انْتَ لمَّا تَقبَلِ  

أوردْتُها صَديَا وَثُوقًا بالندى :: صَدَّا موارِدِكَ الرِّحابِ الحُفَّلِ  

تشكو نوائبَ شدَّما عضَّتْ بنا :: مِن عَضةِ الزمن الجُحاف المُمحِلِ  

ترجو ذَنوبا ناقِعا غُلَلَ الصدى:: من وِردِ كَوثرِكَ النَّميرِ السَّلسلِ  

ثم النجاةَ إذا الحصائلُ حُصلتْ :: يومَ التغابنِ في الرعيلِ الأولِ  

ولوالديَّ وأسرتي وعشائري :: أرجو الخلاصَ من الهلاك بكمْ ولِي  

ثم الصلاة على النبي وآله :: وصحابه والتابعين الكُمَّلِ              

          كامل الود

إكس ول إكس إكرك