لا يكاد يختلف اثنان من شهود مراحل تطور الدولة الموريتانية، في أن الفساد المستشري في مفاصلها، عموما، وأذرعه المالية والسياسية، خصوصا، كان صناعة خالصة للعسكر الذين انقلبوا صبيحة 10يوليو 1978، على سلطة تأسيس طال عليها الأمد، وأنهكتها حرب الأشقاء في الصحراء الغربية؛ فكانت نهاية ثمانية عشر عاما من حكم الرئيس المختار ولد داداه، استغرقت معظمها ورش البناء والتأسيس ومواجهة التحديات، في ظل شح الوسائل وندرتها، لكن مفهوم الدولة، ونظافة الأكف، واحترام القانون، كانت طابعها العام.
في ظل تدافع اللجان العسكرية على السلطة، حيلة ومكرا، وغلبة وقهرا، بعد الـ 10 يوليو، غابت مفاهيم الدولة الحديثة عن الاعتبار والممارسة، وحلت محلها المفاهيم المناقضة العتيقة الموروثة عن عهود اللادولة، بما يمثله من سائبة وشظف، وحل وترحال، وتنافس على الكلأ والماء؛ فسادت حالة اللاعقاب، والاحتكام إلى القوة، والازدراء بالدولة، والاستهتار بالقانون، وحضرت العصبيات القبيلة بقوة، والإثنيات اللونية واللغوية، والأحلاف الجهوية، واستيقظت النعرات العرقية، وأفلتت الثارات التاريخية من عقالها؛
تحت ضغط القيم السلبية المتجاوزة، نشأت إمبراطورية فساد رهيبة، غيرت جلدها أكثر من مرة، واجتازت تحولات دراماتيكية، كلها من صنعها، بجلبتها وجوقتها، ولافتاتها العريضة: إنقاذا، وخلاصا، وتحريرا للرقيق، وتطبيقا للشريعة، وديمقراطية وانتخابات وحوارا ومحاربة مزعومة للفساد، هي عين الفساد، وكان أسوأ عهودها عشرية عجفاء، بدأت بانقلاب أنهى محاولة إضفاء مسحة ديمقراطية على الحياة، تديرها إمبراطورية الفساد بالريموت كونترول.
في ظل إمبراطورية الفساد الرهيبة خلال العشرية الأخيرة، بات المال والسلطة-معا-دُولةً ونهْباً، بين ذراعيها، ممثلين في تحالف مغتصب السلطة، صاحب القبضة السياسية المتصرف بأحاديته، في مجمل الشأن الوطني؛ وبين ناهب الثروة، صاحب شلال المال المتدفق من مصادره الرئيسية، وقد ملأ الخزائن والجيوب؛ وبذلك الحلف نشأت إمبراطورية فساد شريرة، قيادتها في القصر، وفروعها ديناصورات وغيلان وحيتان كبيرة، مكن لهم من يتحكم في السياسات والخطط والاستراتيجيات، في الموارد الرئيسية للدخل القومي والثروة الوطنية ومصادر الميزانيات.
إن من أهم موارد ميزانيات الدول، بل لعله أهمها على الإطلاق، حصيلة عمل مصالح الجمارك، فعليها يكون معول الدولة، أي دولة، في تحصيل مداخيل خزانتها العامة، وتغطية نفقاتها، من خلال الجباية والإتاوات الجمركية على الواردات، برا، وجوا وبحرا؛ لكنها بتلك الصفة مهيأة أكثر من غيرها لتكون وكرا للفساد والمفسدين.
"بالوعة الفساد الرهيبة"، تلك هي الصفة المناسبة لمصالح الجمارك الموريتانية، في ظل واقعها الفاضح ، وقد تحولت إلى إقطاعيات خاصة، شخصية وأهلية وزبونية، بل إلى حمى ترتع فيه قطعان المفسدين، وباعة الذمم والولاء السياسي، في غياب أية رقابة أو مساءلة؛ وقد تم التمكين لتلك القطعان في الموارد والمداخيل الهائلة للقطاع، وبما لديهم من نفوذ مالي كبير، وزخم سلطوي مكتسب من موقعهم في المنظومة التي تصنع الفساد وترعاه، حولوا تلك الموارد عن وجهاتها الوطنية الخدماتية والتنموية،، إلى وجهات تكون في الغالب جيوبا وحسابات وخزائن تخصهم، مع شركائهم.
الإدارة العامة للجمارك الموريتانية، وما أدراكم ما هيه؟ لقد كانت خلال عشرية البأساء والضراء، جسرا لعبور مئات المفسدين الكبار، في وقت وجيز، من مواقعهم الأصلية في القاع القريب من دائرة الفقر، إلى مصاف رجال الأعمال الكبار، وذلك بآليات وطرق غير شرعية ، تحركها وتشترك فيها أطراف مختلفة، تنتظم فيها أذرع الإدارة من حائزي توصيات القصر، وجيش الوسطاء المقربين، وتجار الذمم، ويكون أبرز ضحاياها، بعد الخزانة العامة للدولة، الحق والعدل والمستورد المسكين.
تسلم الإدارة العامة للجمارك الموريتانية، منذ اثنتي عشرة (12) سنة كاملة، أحد الأذرع القوية لإمبراطورية الفساد، هو جنرال نشط، ذو مكانة وحضور في شلة العشرية العجفاء، ومنذ اليوم الأول له في هذا المرفق الحيوي، تصرف في تلك الموارد الهائلة منفردا، رافضا، حتى تعيين مدير مساعد لتلك الإمبراطورية المالية الضخمة، لأنه –ببساطة-لا يريد شاهدا على ما يجري فيها، ولا من يحتمل أن يقاسمه بعض الأعباء، أو يقترب معه من المعلومات الخاصة جدا، والتي لا يريد أن تتجاوزه إلى أي كان.
لو تكلمت المئات من وثائق المخالصات الجمركية، التي يستمسك بها عشرات من ضحايا مافيا الموانئ، لو نطقت تلك الوثائق بالفصحى، لشاب الولدان من متابعة هول ما يجري في أقبية تلك البالوعة الرهيبة التي تدير مسرح العبث بأموال الناس وحقوقهم؛ وهي بالمئات بحوزة الموردين، من غير أصحاب الحظوة، وفيها يتم التلاعب الفج من طرف الإدارة وأصحاب التوصيات العليا، بتصاريح الجمركة، حيث تنتهك كل المعايير والقواعد التي تضبط مخالصات البضائع، وتحدد نصيب (!) الخزانة العامة منها.
... يتبع...