كان تزوير الوثائق الرسمية في بلادنا، وخاصة إن تناولت ما له علاقة بالمال والذمم، كان وما يزال إحدى أقصر الطرق لبلوغ قطعان المفسدين غاياتهم المحرمة شرعا، والمستنكرة طبعا، ألا وهي الولوغ، بأي ذريعة أو وسيلة، فيما لا يحل من مال الله أو مال الناس؛ لكن بالوعة الفساد الرهيبة، والتي دارت رحاها، بلا توقف او تراخ، في إدارة الجمارك، قد جعلت مما كان حتى الأمس القريب جريمة نكراء، يمارسها بعض ضعاف النفوس سرا، وبخيفة وتوجس، جعلت منه صناعة تدعو إلى نفسها في العلن، ولها أسسها ومؤسساتها وخبراؤها ومصانعها؛
صناعة سُحْت، توزع مال الله وأموال الناس في مئات العمولات الحرام، فتدخل الجيوب والحسابات بالمليارات، دون أن تترك أثرا يمكن تتبعه لإدانة الفاعل والمستفيد؛ لولا أنك ترى كليهما، مهما استعمل من تمويه، وظن أنه أسند ظهره إلى مأمنه وحصنه، يكاد يقول: " أنا المسيء خذوني" ! لقد عرفت العشرية التي انصرمت، غير مأسوف عليها، والتي كانت ترفع، زورا وبهتانا، لافتة محاربة الفساد، بالخط العريض؛ عرفت خلالها صناعة التزوير في قطاعات الدولة عامة، وفي مصالح الجمارك خاصة، ازدهارا غير مسبوق، وتفتقت أذهان قطيع الفساد عن مخترعات وآليات لا تخطر لأحد على بال؛
وهكذا، بدون رساميل، أو قوى عاملة، أو معدات وآليات؛ أرست إدارة الجمارك الوطنية، صناعة قذرة وضخمة، رأسمالها تعليمات سامية، ووسائلها تسهيلات حصرية، وتوصيات خاصة، واستهداف أوصاف وانتماءات محددة، وإجراءات عقابية صارمة، تقف بالمرصاد لمن لا تعجبه اللعبة، أو لا يرغب في الانخراط فيها؛ ولقد دارت عجلة الفساد، في إدارة الجمارك، بسهولة ويسر، فالأمر في غاية البساطة؛ فالموردون والتجار والهيئات والمؤسسات، فئات وأنواع ومستويات؛ تماما كما أن الآليات والمستوردات والحاويات، وما في الحاويات، أنواع كثيرة ومختلفة في طبيعتها وحجمها وثمنها وضريبتها؛
وكما أن في الأشخاص الطبيعيين أهل حظوة ومكانة وخصوصية، فكذلك أيضا في البضائع الواردة ما هو كذلك؛ وهكذا فكل التسهيلات، بلا استثناء، وبلا ممنوعات، هي حكر على ثلة قليلة من أصحاب الحظوة (!) هم أهل امتياز التعليمات السامية، أو المؤشر على أسمائهم وأوراقهم بتوصيات خاصة؛ وهم أقلية وإن كانوا بالعشرات، وربما المئات، لكنهم يتفاوتون في الحظوة وفي نوع الخدمة والمستوردات، بين المعدات والآليات الضخمة، وبيوت وخيم المدن الجاهزة، والحمامات وغرف النوم، والسيارات القافلة، ثم التجارات المباحة والمحظورة، والحاويات لكل ما خف حمله وغلا ثمنه؛
لكن مع هذا التباين يجمع أولئك النفر من ديناصورات الفساد وحيتانه الكبيرة، أن حضور أي منهم، إلى ميناء الصداقة، ولو بممثله أو رسوله، أو بمجرد اسمه، يلغي كل القواعد النظامية المعروفة، ويوقف تنفيذ كل القوانين النافذة المعمول به، وربما ألغى الدستور نفسه، فيتعطل الكل، ويعكف الجميع على المعاملة الخاصة بالمحظي ،حتى يودع ذو بما يليق به، دون أي سؤال أو اعتراض أو استفهام؛ ويكون الشقي من بدر منه، من رجال الجمارك، ما يعكر مزاج صاحب الحظوة، ليصدر بحقه، فورا، قرار تحويل نافذ إلى ولاته أو تيشيت أو ودان، أو غيرها من قرى القفر الداخلية؛
أما الأكثرية من المترددين على الجمارك، من الموردين ووكلائهم، بشأن تجاراتهم ومستورداتهم من المؤن والمنسوجات والصناعات والأغراض والتجارات، وهم بالآلاف المؤلفة؛ فلمثل أولئك رصدت بالوعة إدارة الجمارك وترسانة فسادها الممنهج، التي لا ينجو منها بر ولا فاجر؛ وهنا، مع أغلبية التجار والموردين والممونين الأساسيين للسوق، كما لدى الأقلية من أصحاب الحظوة، يستوي الناس، لكن في اهتضام حقوقهم وإساءة معاملاتهم وفرض الضرائب الباهظة وغير المبررة عليهم، وربما اختلفوا، مثلهم أيضا، لكن في حجم وقيمة التجارات، ومن ثم الغرامات.
هنا يحار أولو الألباب في الآلية الجهنمية المرتبة سلفا، مع الوسطاء المعتمدين، وهم من يقومون بملاحظة المستوردات، وتحديد نوعها وكميتها وحالتها، ومن ثم ترسم الضريبة الجمركية المطلوب سدادها؛ لكن المر لا يتوقف هنا، فالمستورد وهو رب البضاعة، ملزم بتسديد المبلغ الذي يقترحه الوسيط في تقريره الشفهي الذي يتم إعداده بمعرفة الإدارة وأمرها؛ لكنه لن يسدد لخزانة الدولة، في أحسن الأحوال، غير خمس المبلغ المقدر، وهو ما سيتضمنه التصريح الرسمي بالبضاعة، وربما هبطت النسبة إلى العشر، أما بقية الأقساط، فتسدد جبريا، بالكاش، قبل تحرير التصريح الجمركي!!
صدق، أخي القارئ، فأنت هنا تتلقى المعلومات كما هي؛ ألم نقل من قبل أن تلك الوثائق، ونعني بها التصاريح الجمركية، لو تكلمت بالفصحى، لشاب الولدان من متابعة هول ما يجري في أقبية تلك البالوعة الرهيبة التي تدير مسرح العبث بأموال الناس وحقوقهم في بوابة البلاد الرئيسية؟!
والأدهى والأمر من هذا أن شخصية مرموقة بوزن الجنرال المؤتمن علي خزائن الأرض لم يأبه بما تمر به البلاد من ضائقة تستحق التريث في أخذ الإجازة والابتعاد عن عن الأحداث المرشحة اصلا للتصعيد بسبب جايحة فيروس كورونا المستجد الذي وضع البلاد في وضع غير مسبوق يتطلب من المسؤولين الحضور.وليس عدم الاكتراث بما تمر به البلاد.من ضائقة.هذا مؤشر علي عدم المسؤلية .
بقلم ألياس محمد